مقالات الرأى

وكيل الصحفيين ل ” الدحدوح” الإجلاء ليس هروبا يا صديقي

 

متابعة / هيام عبد العزيز

 

بكل الحزن والٱسي  نعي وكيل الصحفيين  هشام يونس صديقه الصحفي و مراسل  قناة الجزيرة بقطاع غزة ” وائل الدحدوح*  والذي استهدفت قوات الإحتلال الإسرائيلي عائلته وارتقوا  جميعا شهداء ليصبح الدحدوح أيقونة للصبر والإحتساب

قال يونس مخاطبا صديقه عبر صفحته الشخصية:

(الإجلاء ليس هروبًا من الميدان يا صديقي وليس تقهقرًا أو انسحابًا، ولكنه إعادة تموضع في ساحات أخرى تحتاج إلى قصتك وعبرتها ودروسها وإلهامها.)

وائل الدحدوح.. الاعتزال الواجب

هل بقي في قوس صبره منزع؟ وهل من الواجب علينا أن نتأسف ونحن نراه في كل مرة يُغتال بدم بارد حين ينتزع القتلة بعضًا من قلبه وروحه وعقله ونصمت؟

وهل من الأخلاق أن نكتفي بمشاهدته ينزف وجعًا مع كل كلمة يحفرها بمأساته ونحن نثني على صبره واحتسابه وتسليمه بالقضاء والقدر؟

وهل من الواجب ألا نتحدث إلا بكلمات العزاء له والرثاء لذويه؟

أليس لازمًا وقد دفع أثمانًا كثيرة أن ندعوه إلى أن يتوقف لالتقاط الأنفاس حتى وإن رغب في مواصلة الركض بعد ذلك؟

ثم هل نتجاوز إذا دعوناه إلى الاعتزال الآن وهو في قمة العطاء والتضحية بعد أن أصبح أيقونة قيمة يجب الحفاظ عليها؟

هل نهمس في أذنه قبل كلمات المواساة والسلوان بكل معاني الشكر وأن نطلب منه الاكتفاء بما قدم والتحول إلى ميدان غير بعيد من أجل قضية فلسطين التي نذر حياته وفلذات كبده لأجلها.

حياتك أهم من الخبر

نحن الصحفيين دائما ما نقول للبادئين في أول طريق مهنتنا الصعبة إن حياة الصحفي أهم من أي خبر، وإن أي سبق صحفي لا يستحق المغامرة بالحياة ولا احتمال إراقة الدم أو قضاء الصحفي بقية حياته مصابًا أو معاقًا أو مشوّهًا.

وبالرغم من أن أكواد العمل الصحفي في مختلف أنحاء العالم تحرص على تفعيل قواعد السلامة المهنية خاصة في مناطق الصراع حيث الاشتباكات بلا حد أو نظام من هذا الطرف أو ذاك، فإن الحروب لا تحفظ سلامة بشر أو حجر والكل معرض للموت أو ما دونه من جروح.

وعندما تفرض مجريات الأحداث عليك أن تذهب إلى مكان يحوم حول حماه الخطر، فلا تذهب بدون تردد، ولا تقامر بحياتك بشكل قاطع، وحافظ على حياتك لأنها دائما أغلى من الانفراد بمعلومة قد تتاح بدون أن تدفع حياتك ثمنا لها، وحتى إن لم تتح الآن فبعد حين ستخرج من الخباء إلى النور مهما طال وقت بقائها حبيسة الظلام.

وعندما تدور رحى المعارك فلا أمان لأحد ولا ضمان من أي جانب، فالكل تحت القصف وأمام الرصاص سواء، ومن الوارد أن تأتيك نيران صديقة دون توقع أو استعداد من الطرف الذي تظن أنه يرحب في وجودك لنقل الحقيقة أو ما تعتقد أنه كذلك.

وفي وسط هذا وذاك لا يرحب أحد بالصحفيين؛ إذ إن وجودهم غير مرغوب فيه، فكل من يحمل السلاح ليحتل أو ليقاوم يريد اختيار لقطات محددة ومشاهد معينة لتخدم الصورة التي يريد لجمهوره وللعالم أن يراها، ويحرص على إخفاء ما يؤذي الصورة التي يريدها.

عدوان لا حرب

وفي غزة ليست هناك حرب بين طرفين لأنه ليس هناك جيشان، وإنما عدوان من احتلال شرس بمعداته الثقيلة وآلياته الحديثة وتقنيات عصر الذكاء الاصطناعي، وفي المقابل مقاومة وطنية طورت خامات محلية وأبدعت في تصنيع أسلحتها الخفيفة التي تكفي لرفع صوتها جهورًا لرفض الاحتلال وعربدته ومجلس الحرب وغطرسته، ومحاولة فرض الأمر الواقع بدون حق.

ويختلف وضع الصحفيين الفلسطينيين العاملين في قطاع غزة الذي أصبح بيئة نادرة وغير متكررة للعمل في هذا العالم، حيث تزدحم الأجواء بكل مصادر الخطر وبكل ما تحفل به من روائح الموت.

الصحفي هدف عسكري

أينما ذهب الصحفي الفلسطيني في قطاع غزة فهو هدف مستباح لجيش الكيان الصهيوني ليس فقط لأنه مواطن فلسطيني شأنه ككل من ثبت على أرضه، وتمسك بها ولكن لأنه صحفي مهمته الرئيسة نقل الحقيقة التي لا تريد إسرائيل أن يراها العالم، ولذلك تعتبره هدفا عسكريًّا مباحًا.

وتقوم إسرائيل بمحاصرة الصحفيين الفلسطينيين ليس فقط بالاستهداف المباشر الذي خلف 109 صحفيين قبل مرور مئة يوم على العدوان، ولكن أيضا بمنع دخول الأطقم الصحفية الأجنبية إلى غزة، حتى تكون الطواقم المحلية متهمة بالانحياز لصالح المقاومة التي تصفها الولايات المتحدة الأمريكية راعية إسرائيل بأنها “حركات إرهابية”، وبالتالي تكون هدفًا مشروعًا وفق السردية الإسرائيلية لتبرير الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة.

الدحدوح نازحًا

لم يقصر وائل الدحدوح في الركض خلف الأخبار في أنحاء قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي وبعد أقل من أسبوعين من بدء العدوان أصبح الدحدوح صحفيًّا نازحًا مع عائلته ضمن مئات الآلاف الذين أجبروا على ترك منازلهم تحت وطأة القصف والتهديد بالاجتياح.

وبينما كانت عائلته تواجه حياة صعبة وهي لاجئة في بيوت الأقارب بمخيم النصيرات وسط قطاع غزة، فقد وائل زوجته وابنه وابنته وحفيده باستهداف واضح لبيت تجمعت فيه عائلته، بقصف وحشي من طيران الاحتلال.

وبرباطة جأش دفن زوجته وأبناءه وعاد ليقف أمام عدسات المصورين ويمسك بتلابيب الحقيقة فاضحًا وحشية الاحتلال ومعاداته للإنسانية واستهدافه لعائلات الصحفيين.

الفقد مستمر

وبعد أسابيع من الفقد الكبير في حياة وائل الدحدوح، تختبره السماء بالفقد الأكبر للسند المستقبلي حين يستهدف الكيان الغاصب سيارة عليها كلمة (PRESS) بوضوح ليفقد طاقم الجزيرة شهيدين ينضمان لقائمة الشرف والتضحيات هما مصطفى ثريا وحمزة الابن الأكبر لوائل الدحدوح.

وفي تكرار لمشهد الثبات الأول عند فقد الزوجة والأبناء يخرج الرجل المكلوم من المستشفى إلى المقبرة ثم يقف أمام العدسات مسلمًا للقدر في السماء ومثبتًا كعبه في الأرض بعناد ليعلن أنه سيستمر في أداء واجبه راضيا بالقضاء.

لم يتوقف الاحتلال الإسرائيلي عن استهداف رُسل الحقيقة وناقليها من الصحفيين، وعائلاتهم، وسيظل وائل نفسه هدفًا للتصفية النفسية عبر استهداف ما بقي من أسرته ثم للتصفية الجسدية بعد ذلك، في مكايدة تليق بدولة نشأت بالإرهاب وعاشت به.

شكرا وكفى!

وبعد أن قدم رب العائلة ولديه وابنته وحفيده وقبلهم جميعا زوجته وشريكة عمره، ماذا ننتظر لنقول لوائل الدحدوح توقف ونحن نقدرك ونحيي دورك، ونحن لك من الشاكرين الذاكرين لما تحملت من فواجع وما تكبدت من مصائب وما ألهمتنا به من صمود وإصرار على المقاومة.

كنت أدعوه إلى استراحة محارب بعد تلقي خبر استشهاد ابنه حمزة، لكن بعد أن سمعت كلماته على مرقد نجله، أدعو إلى أن نجعله سفيرًا للقضية الفلسطينية في العالم يطل بوجهه الأيقوني؛ ليروي ما لا يحكيه الرواة، ويكتب ما يعجز عن شرحه الكتاب ويفضح ما يعجز عنه شهود العيان.

أيها الصديق المبتلى.. في حروب الجيوش يتم إجلاء المصابين والجرحى إلى الخطوط الخلفية، كي يتفرغ الجنود لمواقعهم، والآن وقد أصبحت مصابا بالفقد وجريحا بالأوجاع فإن الإجلاء صار واجبا لا إلى الخطوط الخلفية مثل ضحايا المعارك ولكن إلى الخطوط الأمامية في جبهة أخرى نحتاج إليك فيها بعد أن أصبحت أيقونة للمقاومة ولصمود الفلسطينيين مواطنين وصحفيين.

كن أسطورة

الإجلاء ليس هروبًا من الميدان يا صديقي وليس تقهقرًا أو انسحابًا، ولكنه إعادة تموضع في ساحات أخرى تحتاج إلى قصتك وعبرتها ودروسها وإلهامها.

ستفقد الجزيرة مديرًا نشطًا ومقاتلًا حقيقيًّا لمكتبها في غزة، إذا غادرها الدحدوح، لكن القضية الفلسطينية ستكسب رجلًا أسطوريًّا قدم فلذاته وما زال يريد أن يستمر، ووجب علينا منعه من تقديم المزيد، ليس من أجله فقط وهو يستحق ولكن من أجل القضية التي قدم لأجلها أثمانا فوق طاقة البشر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!