مقالات الرأى

د. عبد الحليم قنديل يكتب: أبعد من الحجاب

بقلم الكاتب الصحفي الدكتور عبد الحليم قنديل

انتفاضة الإيرانيين الأخيرة ، التى يطلق عليها رمزيا وصف “ثورة مهسا أمينى” ، ربما لن تكون الأخيرة من نوعها ، وإن شهدت مظاهر مستجدة نسبيا ، من نوع فرار قوات الامن خوفا من المتظاهرين ، وتفشى الاحتجاجات على نطاق عابر للأعراق ، برغم بداية اشتعالها فى كردستان إيران تلبية لدعوة أحزابها المحظورة رسميا ، وصولا لسيطرة شعبية موقوتة على مدينة كردية إيرانية قرب الحدود مع تركيا ، وبعد تواصل ظواهر الغضب الشعبى لأكثرمن أسبوعين ، توارت القصة قليلا بقمع دموى عنيف ، أسقط عشرات القتلى والجرحى ، بعد أيام من التردد والارتباك الحكومى ، وإلى أن تطورت الصدامات إلى حرب إيرانية ساخنة بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة على مواقع جماعات الأكراد الإيرانيين ومعسكراتهم فى شمال العراق .
الشرارة الأولى باتت مشهورة ، شابة كردية إيرانية ، كانت فى زيارة سياحية للعاصمة “طهران” برفقة شقيقها ، وتضع على رأسها حجابا متساهلا ، كعادة أغلب الإيرانيات ، اعتقلتها “شرطة الأخلاق” لمخالفتها قانون فرض الحجاب ، الذى صدر عام 1983 ، وهو يلزم النساء بارتداء “الحجاب الإسلامى” ، ويعرف فى إيران باسم “الشادور” أو “الخيمة” ، وهو عباءة سابغة تغطى كل الجسد عدا الوجه واليدين ، وهو ما لا تلتزم به سوى نحو 15% من النساء ، بحسب استطلاع رأى إيرانى جرى عام 2018 ، بينما تتحايل غالبية النساء ، وترتدين ما يعرف إيرانيا باسم “الحجاب السئ” ، سواء وصف بالمقبول أو بالمرفوض ، وفى الأخير تحسر الفتيات والسيدات غطاء الرأس إلى الخلف والأسفل تماما ، وبما يكاد يظهر شعر المرأة بالكامل ، وهو الخطأ الذى اتهمت به “مهسا أمينى” ، واقتيدت بسببه مذعورة إلى مخفر تابع للشرطة الدينية ، وإلى أن ماتت سريعا فى ظروف غامضة ، وبسكتة دماغية بعد اعتداء مبرح بالضرب على قول المعارضين ، وأشعلت وفاتها غضب النساء الإيرانيات ، وإعلان النقمة على قانون فرض الحجاب ، الذى تتراوح العقوبات على مخالفته بين الغرامة والسجن لنحو شهر والجلد لسبعين مرة .
بدت القصة نسائية ، ومحصورة لأول وهلة فى موضوع الحجاب ، لكنها فتحت ثقبا هائلا فى جدار الغضب الاجتماعى والسياسى ، وانتقلت الحوادث من مشهد حرق الحجاب ، إلى حرق صور المرشد “على خامنئى” و”قاسم سليمانى” رمز الحرس الثورى الراحل مغتالا ، ومن شعارات إسقاط الحجاب إلى إسقاط النظام كله ، تماما كما جرى مرات قبلها فى العشرين سنة الأخيرة ، من ثورة الطلاب عام 1999 ، إلى “الثورة الخضراء” عام 2009 ، بعد تزوير الانتخابات ضد الإصلاحى “مير حسين موسوى” الذى كان مرشحا للرئاسة ، وإلى انتفاضة 2019 الواسعة النطاق ، على خلفية تردى الوضع الاقتصادى والاجتماعى ، بأثر من تراكم وغلظة العقوبات الأمريكية القصوى ، المعاد فرضها وتشديدها بعد خروج “دونالد ترامب” رئيس أمريكا السابق من الاتفاق النووى فى مايو 2018 ، ثم جاءت الحوادث الأخيرة بعد تراجع فرص العودة القريبة للاتفاق النووى ، وهو ما توقعنا حدوثه فى مقالنا “الاتفاق المعلق” المنشورهنا أواخر أغسطس الماضى ، ولم تخف الأطراف المتصارعة حقيقة وجوهها هذه المرة ، فقد أعلنت الإدارة الأمريكية الحالية تأييدها لانتفاضة إسقاط الحجاب والنظام ، وقدمت تسهيلات تكنولوجية لتيسير دخول المتظاهرين على خدمة الإنترنت ومواقع التواصل الاجنماعى ، تماما كما لم تكتم أطراف إقليمية كارهة لنظام “الملالى” الإيرانى فرحتها الغامرة ، وبشرت كالعادة بقرب ذهاب النظام إلى مزابل التاريخ .
وقد لا يكون من جدال كثير فى حقيقة استبدادية وديكتاتورية النظام الإيرانى ، شأنه كشأن غالب نظم الحكم فى المنطقة ، واعتماده لما يسميه “ديمقراطية دينية” ، تعطى السلطة المطلقة لقادة غير منتخبين مباشرة من الشعب ، بل من اختيار مجالس وصاية معينة ، كمجلس الخبراء وغيره ، فسلطة المرشد دينية وآمرة وبغير تعقيب ، أما الرئيس والبرلمان ، فهى سلطات أدنى بكثير ، يجرى اختيارها فى “انتخابات محكومة” ومتحكم بها تماما ، ويجرى استبعاد الأغلبية الساحقة من المرشحين ، وبحسب هوى المرشد ومجالسه واعتباراته “الدينية” ، فيما لا يبقى معروضا على الناس المستفتين ، سوى عينات مختارة ، تتوزع فى العادة على جناحى “المحافظين” و”الإصلاحيين” على أطراف سلطة المرشد ، وإن نال المحافظون حظوة المرشد أكثر ، ومزايا القرب من “الحرس الثورى” وهيئاته وشركاته ، وحماية “الباسيج” ، وهو جهاز نصف عسكرى تابع للحرس الثورى ، وإلى غيرها من هيئات زاعقة بالشعارات الدينية الشيعية طبعا ، وتكاد تحتكر كل موارد إيران ، وتتخفى بفساد القادة ، وتضعهم فوق كل مساءلة ، وتدير النفوذ الإيرانى المتوحش فى المنطقة العربية ، وتنفق بسخاء على جماعات طهران فى العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول الخليج ، وتجعل من حجاب النساء وسيلة للإدعاء الدينى الفج ، فهى لا تهتم كثيرا بعفاف النساء ، وحولت تقليد “زواج المتعة” المؤقت إلى نوع من الدعارة العلنية المقننة ، ومع كل هذا الانفلات والتحرر الجنسى ، تريد فرض “الشادور” على الجميع ، وكأن اللباس السابغ للنساء ، يغفر لهن ما تقدم من ذنب وما تأخر ، بينما الحجاب فى أصل الشرع الإسلامى كغيره من الفرائض ، لا يصح فيه ولا له أن يكون إجبارا من سلطة ، بل اختيار مدفوع بالقناعات الدينية الفردية والاجتماعية ، وكل إجبار من هذا النوع ، يؤدى إلى نتائج عكسية تماما ، فلا حق لسلطة فى فرض ارتداء الحجاب أو خلعه ، وقبل نحو تسعين سنة ، كان شاه إيران “رضا خان” ، قد أمر بخلع الحجاب عام 1936 ، وثار الشعب الإيرانى وقتها ضد قرار الخلع ، تماما كما يثور اليوم على قانون الفرض ، وتتحايل عليه أغلب النساء الإيرانيات إلى حد التمزيق والتحريق ، وربما توليد مشاعر حانقة على مبدأ التدين ذاته ، ودفع الناس للكفر بالدين والمروق منه سرا وتقية ، وبالذات مع سطوة وسلطة رجال الدين ، التى لا يعرفها صحيح الإسلام ، إلا فى أوساط الشيعة والسلفيين .
والقصة فى إيران أبعد من الحجاب طبعا ، وتتعلق بمدى قدرة النظام الحاكم على الصمود ، وبوسائل الإقناع والاقتناع لا بالقمع الدموى المرعب ، وقد لا يكون النظام على وشك سقوط قريب كما يتمنى البعض ، وإن كان يعانى من متاعب ظاهرة ، بعضها مفروض من الخارج كتحديات العقوبات ومضاعفاتها ، وبعضها فى بنية النظام المغلقة ، التى تحصر جمهور النظام فى المؤيدين أو المستفيدين ببقائه ، وهم قوة لا يستهان بها ، تملك دواعى السلاح والمال وسطوة التحشيد الدينى ، لكن القوة المؤيدة الملموسة لا تخفى وجوه ضعف خطرة ، تنفذ منها عناصر مثيرة للقلق والغضب ، ليس فقط من منظمات وجماعات المعارضة المقيمة أساسا خارج البلد ، وتعانى هى الأخرى من الارتهان لتمويل وإدارة من أجهزة مخابرات صغرى وكبرى ، وقد تستفيد من موارد غضب اقتصادى واجتماعى فى الداخل ، تتدافع أماراته متوالية برغم طوفان القتل ، وما من سبيل لاحتوائه إلا بفتح النوافذ وإتاحة حريات أوسع ، وكسر ثنائية التداول الحصرى بين محافظى النظام وإصلاحييه ، وهو ما قد يعنى تجاوز النظام لنفسه ولإخفاقاته ، ربما بحثا عن فرص صمود أطول ، ودعم ما تحقق له وبه من منجزات وطنية لا تنكر ، من نوع البرامج النووية والصاروخية المتطورة وتكنولوجيا الطائرات المسيرة والأقمار الصناعية وقواعد إطلاقها ، وإقامة شبكة عالمية ذكية معقدة للتحايل على العقوبات المفروضة ، ودفع العلاقات درجات مع روسيا والصين ، وتكثيف التعاون مع تجمعات الاقتصاد المناهضة للغرب وديكتاتورية الدولار ، وتطوير التعليم التقنى المتقدم فى مجالات الرياضيات والفيزياء والذكاء الاصطناعى وغيره ، والنجاح الملحوظ فى الصناعات المدنية كالسيارات والحاسبات وغيرها ، وكلها منجزات أحسنت استغلال الظروف ، واستفادت للأسف من فراغ وتخلف الواقع العربى المحيط ، واستخلصت جمهور الشيعة العرب فى غالبه لمعية إيران ، إضافة لجذب ودعم حركات المقاومة على جبهة الصدام مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، لكن كل هذه الإنجازات على تفوقها وأهميتها ، تبدو معرضة للتراجع وربما للإنهيار ، فثمة تمرد شعبى مرئى متصاعد ضد النفوذ والتغول الإيرانى فى جهات المشرق العربى المنكوب ، وثمة غضب متفاقم فى الداخل الإيرانى نفسه ، فالنزعات الانفصالية الاستقلالية تتمدد فى البلد متعدد الأعراق ، وكثيرمنها مسلح ومدعوم من الغرب أو من جوار ملغوم ، وجمهور الطبقة الوسطى الإيرانية النامية يضيق بالتشدد الظاهرى المفرط لنظام “الملالى” ، وتتوالى انتفاضاته الاجتماعية والسياسية ، شوقا إلى تغيير لا تستبين علاماته ، وحتى بافتراض زوال العقوبات الخانقة ذات يوم قريب ، فقد يهيئ ذلك التطور مجالات أرحب للاعتراض ، تستنفد طاقة النظام على البقاء متجمدا فى مواقعه ، خصوصا مع تربص الخارج الأمريكى والإسرائيلى وبعض الخليجى ، وهو ما قد يؤدى إلى وضع حرج ، قد تخلع فيه إيران حجاب نظامها ، وليس حجاب النساء وحده .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Don`t copy text!